الخميس، 23 أبريل 2020


نموذج فريد لحوار الديانات السماوية .. جبل سيناء التاريخ إذا حكى

جبل سيناء نموذج فريد لحوار الديانات السماوية

جبل موسى يحتوي على أطلال قلايات ترجع تاريخها إلى القرون الأولى من المسيحية

البادية اليوم - محمود حسن الشوربجي
"جبل موسى" ويعرف كذلك باسم جبل سيناء، ويعلو عن سطح البحر بحوالي 2439 متراً ، وسمي بجبل موسي نسبة لنبي الله موسي الذي كلمه ربه في هذا الجبل وتلقي الوصايا العشر وفقا للديانات اليهودية والمسيحية والإسلامية. حيث مكث موسى عليه السلام أربعين يوماً يناجي ربه، حتى تسلم الوصايا العشر وعاد بها إلى قومه.
ويحرص السائحون على صعود هذا الجبل حتى قمته، كما بُني على قمته كنيسة صغيرة للرهبان وهي مخصصة لرهبان دير سيناء، وبني أيضاً مسجد أصغر منها من الحجارة الغشيمة على شكل كوخ صغير.
ويعتبر من أشهر جبال سيناء إذ يزوره الآلاف من السياح، فالناظر من أعلى الجبل يتمكن من رؤية مشاهد جميلة لسلسلة الجبال المحيطة خصوصاً في فترتي شروق وغروب الشمس، وصعدت أعلى قمم هذا الجبل في يوم من الأيام التي قضيتها في محافظة جنوب سيناء، ورأيت طلوع الشمس من خلف الجبال هناك، حقاً إنها طبيعة خلابة لا يمكن وصفها. والصاعد لهذا الجبل يرى جميع قمم جبال الطور ناحية الشرق على مد البصر.
هذا وأسفل جبل موسى "عليه السلام" وداي متسع عرضهُ يعرف بـ "الوادي المقدس"، قيل بأنه المكان الذي مر عليه سيدنا موسى ورأى عنده النار كما جاء في القرآن الكريم : "بسم الله الرحمن الرحيم) " وهل أتاك حديث موسى (9) إذ رءا نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلى آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى (10) فلما أتاها نودي يا موسى (11( إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى (12) ،سورة طه.
و للصعود إلى قمة هذا الجبل تحتاج إلى ما يقارب الساعتين أو أكثر، للصعود طريقين رئيسيين هما: طريق الرهبان، وطريق الجمال .
جبل سيناء نموذج فريد لحوار الديانات السماوية

"طريق الرهبان" ويقع خلف السور الجنوبي لدير سانت كاترين المعروف، قيل بأنه الطريق القديم للصعود أعلى الجبل، وقام رهبان دير سانت كاترين بعمل هذا الطريق من السلالم الحجرية والصخرية ويقال أن عددها يصل نحو 3500 إلى 3700 درجة، ووُصف هذا الطريق بأنه الأكثر صعوبة في الصعود ولكنه الأكثر سهولة في النزول من أعلى الجبل، ويمر هذا الطريق بكنيسة تدعى " كنيسة العذراء"، ثم يمر باستراحة صغيرة تعرف بـ "قناطر اسطفانوس" قيل أن أحد الرهبان في القديم كان يجلس عندها لتلقي الاعتراف من الزوار لهذا الجبل والدعاء لهم بالتوبة.
"طريق الجمال" أو ما يعرف بطريق "عباس باشا" وسُمي بذلك لأنه الطريق الوحيد التي تستطيع الجمال المرور من خلالهِ للصعود على قمة الجبل، قيل بأن الخديوي عباس حلمي الأول أمر بتمهيد هذا الطريق في القرن الـ 19 الميلادي، وعُرف آن ذاك باسم "طريق عباس باشا"، وعُرف مؤخراً باسم "طريق الجمال" وهو الأكثر شهرة الآن حيث يتمكن الزائر والصاعد للجبل أن يستأجر أحد الجمال لكي تعينه وتساعده في الوصول إلى قمة جبل موسى، ويبدأ طريق الجمال من جانب السور الشرقي لدير سانت كاترين ويسير متعرجاً نحو أعلى قمة الجبل ماراً بالعديد من الاستراحات والكافيتريات التي يستريح فيها الزائر من عناء رحلة الصعود وليتمكن أيضاً من استكمال رحلته الشاقة نحو القمة، هذا وبعد تخطي كثير من المحطات والاستراحات يتمكن الزائر حينها من الوصول إلى منطقة مشهورة بالقرب من قمة الجبل تدعى "فرش النبي ايليا" التي تحتوي على مجموعة من أشجار السرو العالية، وبعض من أشجار النبق، وبئر مياه يعرف بـ "بئر موسى" ، وفي المنطقة أطلال لمبنى قديم قيل بأنه المحجر القديم والذي استخدم في بناء واستخراج أحجار كنيسة "الإمبراطور جستينيان" على قمة جبل موسى، وهناك أطلال قلايات قيل بأنها ترجع تاريخها إلى القرون الأولى من المسيحية، والقلايات هي كلمة يونانية معناها حجرة أو حجيرة في دير، لذا سُمي الرهبان سكان القلالي.
هذا وبعد رحلة صغيرة وسريعة داخل منطقة "فرش ايليا" نستكمل رحلة الصعود نحو القمة حتى نصل إلى بداية سُلَّم يصل عدد درجاته إلى أكثر من 750 درجة، وتعرف بدرجات التوبة، وهو السلم الأخير للوصول نحو قمة الجبل وبعد صعود هذا السلم وقبل الوصول إلى القمة بمسافة 50 متراً تقريباً يوجد نحو اليمين أثراً مشهوراً طبيعياً في الصخر الصلب وهو عبارة عن بصمة طبيعية لخُفّْ جمل أي "قدم الناقة"، ويعرف لدى البدو بـ "أثر الناقة". وجانب هذا الأثر استراحات وكافيتريات لخدمة الزوار والسائحين لتوفير الاحتياجات اللازمة من ماء وطعام وغطاء من البطاطين وخاصة في ليالي الشتاء الباردة.
جبل سيناء نموذج فريد لحوار الديانات السماوية

"جبل القديسة كاترينا" ويعرف الآن بجبل "كاترين" ويعرف عند البعض بجبل سانت كاترين ، ويختلف عن تلك المجموعة السابقة من الجبال سالفة الذكر حيث يوجد لديه ثلاثة قمم مرتفعة أعلاها 2657 متراً تقريباً عن سطح البحر وهي أعلاها قمة في سيناء كلها، ويقع هذا الجبل- القديسة كاترينا – في الجنوب الغربي من جبل موسى، وقالت الرهبان هناك أن هذا الجبل نزلت عليه الملائكة ووضعت جثة القديسة كاترينا بعد استشهادها في الإسكندرية عام 307 م، ولم يبق منه حاليا سوى الجمجمة و عظم إحدى اليدين و همامحفوظان في صندوق داخل الكنيسة حتى يومنا هذا، وقيل بأن القديسة كاترينا هي من أهم القديسات في الغرب ولها دور كبير في انتشار المسيحية وماتت فداء لذلك ويوجد بمنطقة الجبل دير مشهور يعرف الآن بدير سانت كاترين، وتقول القصة "أن رهبان الدير وجدوا جسدها أعلى الجبل حيث تم إعدامها في الإسكندرية ومن ثم اختفى جسدها من الإسكندرية، وأن الملائكة قامت بوضع جسدها أعلى قمة الجبل ". ويوجد أعلى الجبل مصلى خاص بها في المكان الذي وجد فيه جسدها. وبالقرب من المصلى يوجد حجرتين حيث الحجاج إلى الجبل يستطيعون البيات ويمكن تسلق الجبل من ممر قام أحد كهنة الدير ببنائه.
و يعد الجبل معلماً سياحيا يزوره السياح ويراقبون شروق وغروب الشمس من قمته كما يمكن مشاهدة خليجي العقبة والسويس من الأعلى.وفي عام 1905 م بنا رهبان الدير كنيسة على قمة هذا الجبل، وبنوا بجانبها غرفة للضيافة أو لراحة الزوار.
جبل سيناء نموذج فريد لحوار الديانات السماوية

أنقاض منشأه عسكرية إسرائيلية أعلى جبل كاترين

هذا وأعلى قمم جبل كاترين أنقاض منشأة عسكرية قديمة من عهد الاحتلال الإسرائيلي عام 1967 ميلادية وقيل أنه كان المركز الرئيسي للاستطلاع للقوات الإسرائيلية أيام الاحتلال، وفي حرب أكتوبر 1973 ميلادية قامت القوات المسلحة المصرية بتدميره، وهو عبارة عن كوخ صغير مبني من الأحجار الغشيمة ويعتليه برج إرسال يبلغ طوله نحو 12 متراً.
أما عن رحلة الصعود لجبل كاترين فهي ممتعة جداً لكل من يهواها ويعشقها، وأثناء رحلة صعود جبل سانت كاترين ينتظر بدو المنطقة بجمالهم، فمن يغلبه التعب يعرضون عليه مواصلة الرحلة راكباً الجمل مقابل مبلغ زهيد. حيث يتطلب الوصول إلى القمة السير لمسافة تبلغ 7 كيلومترات ونصف، وصعود ما يزيد عن 750 درجة سلم صخري.
الطريف أن الجميع يبدأ الطريق في منتهى النشاط والحيوية وبعد نصف ساعة فقط من السير على الأقدام تبدأ علامات الإرهاق واللهاث والرغبة في الاستسلام والعودة مرة أخرى إلى البداية. وبعد ساعة تقريباً من الصعود تجد الاستراحة البدوية الأولى في انتظارك حيث يقدم البدو من خلالها المشروبات الساخنة والباردة والمأكولات لمن هم في حاجة إليها. يمكنك خلال تلك الاستراحة التزود بالماء والاسترخاء للحظات حيث سرعان ما تجد المرشد ينادي عليك لمواصلة الرحلة التي تستمر بنوع من الألفة والاطمئنان حيث المكان آمن فلا وجود لحيوانات ضالة أو ذئاب. ويساهم المكان والرحلة في إذابة الفروق والحواجز بين أفراد المجموعة التي تبدأ في تجاذب أطراف الحديث مع بعضها البعض مسلمين ومسيحيين ويهود، الجميع يصعدون جنباً إلى جنب بدون فوارق أو حساسية لا يقطع حديثهم سوى الوصول إلى استراحة من الاستراحات الخمس المنتشرة أعلى الجبل التي غالباً ما تكون كطوق النجاة لأفراد المجموعة. وفي الاستراحة الخامسة التي تقع قبل السلالم الصخرية تستطيع التزود بالأغطية الصوفية والبطانيات للتدثر بها إذا كان الطقس بارداً حيث تتكون طبقة من الجليد على القمة، كما يستعين بها البعض لأخذ قسط من النوم على القمة في انتظار الشمس وقبل مواصلة رحلة العودة. وقد يظن الكثيرون كما فعلت أن صعود السلالم الصخرية سيكون أهون من السير، ولكن بمجرد صعود عدد من السلالم ستجد نفسك راغبا في التشبث بشخص ما فالارتفاع الشديد والصخور المتعرجة مهمة ليست سهلة ولا سبيل للتراجع. وحين تظن أنك لن تصل أبداً إلى القمة تجد نفسك أمام كنيسة صغيرة حيث تمنحك الفرصة رؤية مشهد قلما تمنحه لك الحياة. في أحد جوانبه ترى قسيساً يصلي بعدد من المسيحيين الذين يقومون بتوزيع قطع من البسكويت على كل من يمر عليهم. بجوارهم ترى بعض اليهود يلتفون حول حاخام ينشدون معه تراتيلهم ويكتمل المشهد برؤية مسلمين يصلون الفجر ويبتهلون إلى الله ويسترسلون في الدعاء.
وفي النهاية يتجمع كل هؤلاء على قمة الجبل يفترشون قمته لمشاهدة سلاسل بديعة من الجبال الجرانيتية الشاهقة بألوانها المتعددة والوديان الصخرية المنحوتة بعناية شديدة والتي لو اجتمع فنانو العالم لما استطاعوا إبداع مثلها أبدا. وتحين اللحظة المرتقبة لينهمر الضياء المنبعث من قرص الشمس لحظة إطلالتها على العالم، فيكسو اللون الأحمر قمم الجبال المحيطة بك وكأنها وجوه تخجل من الشمس لحظة شروقها والتي تمنحك أنت الآخر إحساس الميلاد بمجرد سطوعها عليك وهو ما يجعلك تتمني أن تظل في موقعك هذا إلى الأبد. ولكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه فبعد التقاط الصور الفوتوغرافية، يصحبك المرشد في رحلة الهبوط التي غالبا ما تكون أسهل حيث يتسنى لك ملاحظة أشياء لم تتمكن من رؤيتها في رحلة الصعود منها منازل في أحضان الجبال يسكنها البدو وأبناء القبائل التي هاجرت من الاسكندرية لتسكن حول الدير منذ القرن الخامس الميلادي وأشهرهم قبيلة الجبالية.