الأحد، 26 يوليو 2020

امل نصرالله تكتب .... زاد و دخان

زاد ... و دخان
بقلم الدكتوره امل سلامه نصرالله 

تبدو و كأنها لوحة فنية رسمت بيد فنان عالمى يجيد رسم البورتريهات البديعة . ترتدى ثوباً بسيطاً فوقه تنورة سوداء طويلة يسميها البدو "داير" وتتلحف بخمار أبيض شفاف مطرزاً بنقوش ملونة يسمي "شاشة" عند البدو. بجوار شجرة برتقال وارفة ، تجلس على حجر أسمنتي حتى تتمكن من مقابلة الصاج الذي تضع عليه قرص العجين بعد ان فردته ورققته بكلتا يديها ، ثم تقوم بتغذية النيران ببعض الحطب حتى تزيدها تأججأً و اشتعالاً. يتصاعد من تحت الصاج دخان له رائحة لا تدرى أهى رائحة الخير الذى يملأ قلبها ، أم رائحة هويتها و كينونتها و مسقط رأسها، أم هى فقط رائحة الخبز- يسميه البدو "زاد"- الذى ارتفع قليلا و تغير لونه ليشتهيه كل من مر بها. ولكى تكتمل اللوحه و تزداد بهاءا و جمالا، يجلس بعض الأطفال حول الصاج ليأكلون كل ما نضج من الزاد. تستطيع أن تجد هذه اللوحة فى بيت كل بدوى. فبطلة البورتريه هى الام او الاخت او الإبنة. كلهن يقمن بطهى الزاد بحب و أٌلفة. أما الحب، فهو حب الاهل و الولد ، و أما الالفة، فهى ألفة المكان و رمل الأرض. لقد كانت هذه اللوحة الجميلة حقيقة نعيش تفاصيلها كل يوم و ربما فى اليوم اكثر من مرة. أما الآن، فأتصور ان النيران تحت الصاج قد تأججت و استشرت حتى التهمت كل جمال حولها، و تحولت اللوحة الى صورة معتمة غير واضحة المعالم، يرثى لحالها كل من رآها. و هذه الفاتنة ذات الداير الأسود و الشاشة البيضاء قد امتلأ قلبها حزناً و يتماً، و كل ما تقوم بطهيه من الزاد به مرار لا يخطئه اللسان. حتى رائحة الدخان، اصبحت تشبه رائحة البارود التى تزكم الانوف. وأصبح الاطفال يفرون من حولها، و لما لا؟ فقد سئموا النيران والأدخنة. فتجلس وحيدة، تجمع أرغفة الزاد بعد طهيها، و تضعها فى سلة و تغطيها. ثم تنادى عليهم ليأخذ كل واحد حظه من الزاد. ثم تخلع عنها شاشتها، و تجفف بها دموعها التى سالت بسبب الدخان، أو هكذا ادعت!