الأربعاء، 6 مايو 2020

العصبية القبليه في فكر ابن خلدون  دراسه تفصيليه 


ثلاثة أطوار للحضاره : طور البداوة ، طور التحضر ، طور التدهور 


وفي مقدمة ابن خلدون ومن خلال عرضه ، نستطيع أن نتحقق من وجود هذه الشروط التي تجعله بالقياس الموضوعي البحت مفسرا ً رائدا ً للتاريخ ، وهي الشروط التي انتهى إليها البحث الفلسفي الحديث في التاريخ .
النظرية الخلدونية وحركة الحضارة :
في تفسيره للتاريخ يرى ابن خلدون أن التطور سنة من سنن الله في الحياة الاجتماعية ، ويقول : " إن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لاتدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر ، إنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة ، وانتقال من حال إلي حال ، وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار ، فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول " .
وأهم ما يوجه التطور الاجتماعي والعمراني عند ابن خلدون ، هو نظريته في العصبية ، فهي بمثابة المحور الذي تدور حوله معظم المباحث الاجتماعية والتاريخية عنده ، وهو يتخذ من هذه الأربطة موضوعاً لدراسة شاملة وعميقة ، ويتكلم عن مصدر العصبية ، ويردها إلى الطبيعه البشرية " لأن صلة الرحم طبيعي في البشر إلا في الأقل ، ومن صفتها النعرة على ذوي القربى وأهل الأرحام أن ينالهم ضيم أو تصيبهم هلكة
ويدخل في هذه العصبية عنده عصبة الولاء ، والعصبية عنده من خصائص البادية ، وهي مما يفسد بحياة الحضر ، ولها أثر الهام في الحياة الاجتماعية ، لأن بها يتم التغلب ، وبالتغلب يحصل الملك ، وهكذا تلعب العصبية دوراً هاماً في تأسيس الملك وتكوين الدولة ، واتساع الدولة يكون متناسباً مع قوة تلك العصبية
ويلاحظ ابن خلدون نوعاً من العلاقة بين العصبية وبين أمور الديانة والدعوة الدينية أيضاً ، ففي رأيه أن الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم ، كما يلاحظ نوعاً من المشابهة بين تأثير الدين وبين تأثير العصبية في الحياة الاجتماعية ، وهي نظرية موفقة إلي حد كبير في إظهار أوثق أنواع الروابط الاجتماعية ، وتعيين أهم أشكال التكاتف الاجتماعي في مثل تلك البيئات الجغرافية وتلك العهود التاريخية ، وهي تدل على تفكير فاحص ونافذ ومحيط ومتعمق في درس الحوادث الاجتماعية وتعليل الوقائع التاريخية ، كذلك تكشف نظرية ابن خلدون في الدول وأعمارها عن نظرية في التطور الاجتماعي ، ذات أبعاد بيولوجية ، فالدولة عنده كائن حي يتطور على الدوام وفق نظام ثابت ، كما تتطور جميع الكائنات الحية .

ثلاثة أطوار للحضاره : طور البداوة ، طور التحضر ، طور التدهور 

فالحضارة عند ابن خلدون تتعاقب ، على الأمم في ثلاثة أطوار : هي طور البداوة ، ثم طور التحضر ، ثم طور التدهور الذي يؤدي إلي السقوط .
فأما تطور البداوة فيمثل له ابن خلدون بمعيشة البدو في الصحاري ، والبربر في الجبال ، والتتار في السهول ، وهؤلاء عند ابن خلدون لا يخضعون لقوانين مدنية ولا تحكمهم سوى حاجاتهم وعاداتهم .
وأما طور التحضر ، فهو طور تأسيس الدولة عقب الغزو والفتح ، ثم الاستقرار في المدن ، والتمكن من العلوم والصناعات ، وهذا الطور يقوم علي الدين والعصبية ، وقد عقد ابن خلدون لطور التحضر فصلاً بعنوان " فصل في أن الدول العامة الاستيلاء ، العظيمة الملك ، أصلها الدين إما من نبوة أو دعوة حق "
وأما طور التدهور ، فيأتي في نهاية التحضر ، بعد مرحلة الازدهار ، ووصول الناس إلي مرحلة الانغماس في الترف ، والتحلل في الأخلاق ، وتغير العادات إلي المناكر ، والتواضع عليها ، ويرى ابن خلدون أن مراحل تحضر الدولة هي ذاتها عوامل تدهورها ، ذلك أن الحضارة وإن كانت غاية العمران ، فهي في الوقت نفسه مؤذنة بنهاية عمره ، وأول هذه العوامل هو العصبية التي تتسم بها الرياسة والملك ، ولكن صاحب الرياسة يطلب الانفراد بالملك والمجد ، والطبيعة الحيوانية تدفعه إلي الكبر والأنفة ، فيأنف من أن يشاركه أهل عصبيته فيدفعهم عن ملكه ، فيأخذهم بالقتل والإهانة وسلب النعمة حتى يصبحوا بعض أعدائه ، وطبيعة التأله في الملوك تدفعه إلي الاستئثار ، إذ لا تكون الرياسة إلا بالانفراد فيجدع أنوف عشيرته وذوي قرباه لينفرد بالملك والمجد ما استطاع ، ويعاني الملك في ذلك بأشد مما عانى في إقامة الملك ، لأنه كان يدافع الأجانب وكان ظهراؤه على ذلك أهل العصبية جميعهم ، أما حين الانفراد بالملك فهو يدافع الأقارب مستعيناً بالأباعد فيركب صعباً من الأمر ، إنه أمر في طبائع البشر فهو يدافع في كل الملوك ، على أن العامل الحاسم في ضعف الدولة هو الترف ، إنه إذا كان قد زاد من قوة الدولة في أولها ، فإنه أشد العوامل أثراً في ضعفها وانهيارها ، ويفسر ابن خلدون ذلك بأسباب اقتصادية وأخلاقية ونفسية .
أما السبب الاقتصادي فإن طبيعة الملك تقتضى الترف حيث النزوع إلي ورقة الأحوال في المطعم والملبس والفرش والآنية ، وحيث إجازة الوفود من أشرف الأمم ووجوه القبائل مع التوسعة في الأعطيات على الصنائع والموالي ، وإدرار الأرزاق علي اجند ، ويزيد الانغماس في الترف والنعيم لا من جانب السلطان وبطانته فحسب ، بل من جانب الرعية أيضا ً ، إذ الناس على دين ملوكهم .
أما السبب الأخلاقي النفسي الذي يجعل الترف معول هدم يؤدي إلى انهيار الدولة ، فبعثه في رأي ابن خلدون ما يلزم عن الترف من فساد الخلق ، فإن عوائد الترف تؤدي إلى العكوف على الشهوات وكثير من مذمومات الخلق ، فتذهب عن أهل الحضر طابع الحشمة ، ويقذعون في أقوال الفحشاء ، فضلاً عن أن الترف يُذهب خشونة البداوة ويضعف العصبية والبسالة حتى إذا انغمسوا في النعيم أصبحوا عيالاً على الدولة كأنهم من جملة النسوان والولدان المحتاجين إلى المدافعة عنهم ، فالترف مفسد لباس الفرد ولشكيمة الدولة ، والترف مفسد للخلق بما يحصل في النفس من ألوان الفساد والسفه ، والترف مظهر لحياة السكون والدعة ودليل حيل النفس إلي الدنيا والتكالب علي تحصيل متعها حتى يتفشى الخلاف والتحاسد ، ويفسد ذلك في التعاضد والتعاون ، يفضي إلى المنازعة ونهاية الدولة .

نظرية ابن خلدون في تفسير التاريخ 

وقد انتهى ابن خلدون من خلال نظريته في تفسير التاريخ باستثناء عشرات النظرات والآراء الجزئية إلي عدد من القوانين اعتبرت جوهر نظريته الحضارية ، وهي :
1- أن تطور التاريخ يخضع للتدافع والصراع والتفاعل .
2- أن العصبية الدينية والقبلية لها دور أساسي في بناء الدولة .
3- أن الحضارة كالكائن الحي في تطوره من البداوة إلى الحضارة ثم الاضمحلال .
4- أن الدول كالأفراد تخضع لدورة الحياة الفردية نفسها حتى الموت .
5- أن العوامل الجغرافية والبيئية مؤثرة في التاريخ .
6- أن للاقتصاد دوراً هاماً في العمران البشري ، وأن الاجتماع ضروري لحياة الناس " فالواحد من البشر غير مستقل بتحصيل معاشه " والعمل عنصر أساسي للثورة .
7- أن الدول تسقط بسقوط العصبية والولاء للدين .
8- أن العرب ( والإنسانية كلها ) لا تصلح بغير الدين .
إنني هنا لا أحاول القيام بعملية استقصائية النظرية الخلدونية في تفسير التاريخ ، لكن الذي أردت الوقوف عنده هو المكانة التي تبوأتها الفكرة الخلدونية في تفسير التاريخ ، سواء في الحضارة الإسلامية أو في الفكر التاريخي الإنساني .
لقد شكلت مقدمة ابن خلدون متعرجا ً حاسماً في كيفية فهم الإنسان لتاريخه وتقويمه له ، وما يرجو منه من كشف ، لا عن ماضيه فحسب ، بل خاصة عن تطور الجنس الذي ينتمي إليه ومصيره .
لقد كانت الكتابة التاريخية قبل ابن خلدون ، وعلى امتداد التاريخ كله ، باستثناء الشذرات التي ألمعنا إليها ، كتابات تنظر إلي التاريخ علي أنه مجرد رواية صادقة ، ووثيقة مؤكدة في نسبتها إلي صاحبها وعصرها وسلامة مضمونها ، ومعلومات جزئية غايتها الإلمام بحوادث الماضي والإحصاء العددي لها ... أجل ، حاول الإنسان أولاً أن يؤرخ للحوادث البارزة ، أي أن يكون لنفسه ، وعشيرته ، وقومه ذاكرة تحفظ المفاخر خاصة ، وتضبط أزمانها حسب السنوات ، من دون أن يحاول أن يفهم فهماً عقلياً عميقاً ضرورة بروزها في زمن وبيئة خاصة ، وسر تداخلها ، ومدى تأثيرها علي جنسه كإنسان بقطع النظر عن النظرة الجزئية المحدودة .
وعلى الرغم من الومضات الصادرة من حين إلي حين في بعض أحقاب التاريخ ، وعلى يد بعض الأفذاذ الذين ألمعنا إليهم ، فإن التاريخ بقى محصوراً في دائرة الحفظ التسجيلي للوقائع ، مع توخي الصدق ، والتحري في الرواية .
ولعل مرحلة الصدق والتحري ودراسة الوثائق ، بل الاعتماد عليها ، وهي أفضل ما استطاع المنهج التاريخي أن يصل إليه قبل عصر ابن خلدون . وما إن جاء مؤرخنا المسلم العظيم حتى بدأ التاريخ ، كما يقول ( إيف لاكوست ) " يكتسي صبغته العلمية "

 التغلبات للبشر بعضهم علي بعض

لقد فهم ابن خلدون علاقة التفاعل المتبادلة ، التي تربط الإنسان بتاريخه ، وقد أسماها ابن خلدون " التغلبات للبشر بعضهم علي بعض " ، وقامت بعد ابن خلدون نظريات عالية الصوت ، تتحدث عن الصراع ، وعن " الديالكتيك " وعن " الجلدية المادية " والجلدية الفكرية ، وكلها قد أتت علي هذا القائد العظيم ، وانحرفت عنه يميناً أو يساراً .
إن ابن خلدون قدم المحاولة العلمية الأولى التي خصصت في تفسير التاريخ ، وهي محاولة اعتمدت على المنهج القرآني ، ولم تنفصل عنه ، لقد صور ابن خلدون حقيقة التاريخ بكل وضوح في عبارته المشهورة : " حقيقة التاريخ أنه خبر عن الاجتماع الإنساني ، الذي هو عمران العالم ، وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال مثل التوحش والتأنس والعصبيات ، وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض ، وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها ، وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع ، وسائر ما يحدث في ذلك العمران بطبيعته من الأحوال "
ويعلق أحد المؤرخين المعاصرين على رؤية ابن خلدون للتاريخ ، كما صورتها عبارته السابقة فيقول : " إن هذا التعريف للتاريخ يدهشنا ، إذ هو تعريف له كما نفهمه نحن اليوم ، بل كما يفهمه أنصار الحركة التجريدية الذين حملوا حملة شعواء في مؤتمر سنة 1950 م بباريس ، على من بقى من المؤرخين متمسكاً بالطريقة التقليدية في رواية الحوادث واعتبار التاريخ يكفي أن يكون سجلاً لها ، فابن خلدون يريد عكس ذلك ، فهو يريد أن يجعل من التاريخ أداة كشف عن سر " الاجتماع الانساني " وعن خروج هذا الإنسان من " التوحش " إلي " التأنس " بفضل الصراع الجدلي الذي يعبد سبيله ، عبر عقبات متجددة ، نحو إنسية أكمل ، عن طرق الرقي المستمر الناشئ حتماً عما " ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع وسائر ما يحدث في ذلك العمران بطبيعته من الأحوال " وطبيعة الأحوال هذه التي يشير إليها ابن خلدون ، يعتبرها القانون الذي بمقتضاه يسير التطور الضروري الذي لا يعاند ، إنما هي سنة الله " التي توجه شراع الخليفة ، لينة تارة ، عنيفة أخرى ، والتي أشار إليها القرآن في أكثر من آية ، وهكذا يصبح التاريخ ، استكشافاً كلياً لتطور الإنسان ، ومحاولة حل للغز وضعه اليوم في هذا الكون ، ولمصيره العاجل أو الآجل " .
ولئن كان ابن خلدون لم يطبق كثيراً من آرائه هذه الطموحة الجزئية في كتاب " العبر " ، فإن ذلك لا يسلبه فضل التعبير عنها بغاية الدقة والوضوح ، فإنه كان من المستحيل عملياً لا سيما في زمانه ، تطبيقها من طرف باحث واحد ، في موسوعة فتحت صفحاتها لتاريخ العالم الإسلامي بأكمله ، ولعل استعصاء تطبيق هذه الآراء في كتاب " العبر " هو الذي جعل ابن خلدون يضمن خلاصة أفكاره وعبره واعتباراته خاصة في " المقدمة " ، وهكذا فتح أبوابها للاجتماع والاقتصاد والمؤسسات ، وضروب الثقافات والعلوم ، لأن كل ذلك إن لم يكن تاريخياً صرفاً بالمعنى الضيق فلا غنى للمؤرخ عنه ولا سبيل لفهم الإنسان بدونه .
وهكذا كان ابن خلدون عملاقاً ، يقف متفرداً ، كحد فاصل بين مرحلتين متميزتين في المنهج التاريخي ، وقد أعطى بهذا المنهج المتفرد سبقاً للحضارة الإسلامية ، التي كان لها الفضل الكبير في الانتقال بالتاريخ من مرحلة الجمع إلي مرحلة التفسير ، ومن منهجية التوثيق إلي منهجية التحميص والتركيب الفلسفي الذي يمثل مرحلة جديدة في الرشد العقلي للإنسانية كلها .