السبت، 2 مايو 2020

شبه جزيرة سيناء أكثر من مجرد صحراء 


شبه جزيرة سيناء أكثر من مجرد صحراء   بقلم الدكتور سليمان عباس البياضي

شبه جزيرة سيناء لا تبدو في الظاهر سوى صحراء ، ولكنها أكثر من ذلك بكثير ، والباحث في تاريخها سيجد من هذا " الكثير " والكثير أيضاً .حيث تقع سيناء بين البحر المتوسط وخليج السويس وقناة السويس والبحر الأحمر وخليج العقبة ، وهي تربط أفريقيا بآسيا ، ويحدها من الشرق الق الوادي المتصدع الممتد من كينيا عبر القرن الإفريقي إلي جبال طوروس بتركيا ، وهذا الفالق يتسع بمقدار 1 بوصة سنوياً ومساحتها 60.088 كم2 ويسكنها 280.000 نسمة ، قاعدتها العريش التي تنقسم في الشمال والتيه في الوسط والطور في الجنوب ، حيث الجبال العالية أهمها جبل موسى 2.285 متراً وجبال القديسة كاترينا 2.638 متراً " أعلى جبال في مصر " وفي هذه الجبال في دير سانت كاترين وكنيسة غنية بالآثار والمخطوطات بناها جوستنيان عام 527 م وتضم محافظتي شمال وجنوب سيناء ولاشك أن الوضع الجغرافي لسيناء كان له تأثيره علي التوزيع السكاني ، بل من الملاحظ أنه كان له أيضاً تأثير علي الاسم الذي أخذته سيناء ، فهناك خلاف بين المؤرخين حول أصل كلمة " سيناء " فقد ذكر البعض أن معناها " الحجر " وقد أطلقت علي سيناء لكثرة جبالها ، بينما ذكر البعض الآخر أن اسمها في الهيروغليفية القديمة " توشريت " أي أرض الجدب والعراء ، وعرفت في التوراة باسم " حوريب " أي الخراب ، لكن المتفق عليه أن اسم سيناء ، الذي أطلق علي الجزء الجنوبي من سيناء مشتق من اسم الإله " سين " إله القمر في بابل القديمة حيث انتشرت عبادته في غرب آسيا وكان من بينها فلسطين ، ثم وافقوا بينه وبين الإله " تحوت " إله القمر المصري الذي كان له شأن عظيم في سيناء وكانت عبادته منتشرة فيها ، وبكلام آخر عرفت سيناء كأرض القمر ، ومن خلال نقوش سرابيط الخدم والمغارة يتضح لنا أنه لم يكن هناك اسم خاص لسيناء ، ولكن يشار إليها أحياناً بكلمة " بياوو " أي المناجم أو " بيا " فقط أي " المنجم " ، وفي المصادر المصرية الأخرى من عصر الدولة الحديثة يشار إلي سيناء باسم " مفكات " واحياناً " دومفكات " أي " مدرجات الفيروز " ، أما كلمة الطور التي كانت تطلق علي سيناء في المصادر العربية ، فهي كلمة أرامية تعني " القمر " وهذا يعني أن طور سيناء تعني " جبال القمر " وكان قدماء المصريين يطلقون علي أرض الطور اسم " ريثو " بينما يطلقون علي البدو في تلك المنطقة بصفة عامة اسم " عامو " وقد ظل الغموض يكتنف تاريخ سيناء القديم حتى تمكن الباحثون عام 1905 م من اكتشاف أثنى عشر نقشاً عرفت " بالنقوش السينائية " عليها أبجدية لم تكن معروفة في ذلك الوقت ، وفي بعض حروفها تشابه كبير مع الأبجدية الهيروغليفية ، وظلت هذه النقوش لغزاً حتى عام 1917 م حين تمكن عالم المصريات جاردنر من فك بعض رموز هذه الكتابة ، والتي أوضح أنها لم تكن سوى كتبابات كنعانية من القرن الخامس عشر قبل الميلاد من بقايا الحضارة الكنعانية القديمة في سيناء ، والواضح أنه خلال الدولة القديمة كانت هناك صلة بين سيناء ووادي النيل ، ولعبت سيناء في ذلك التاريخ دوراً مهماً كما يتضح من نقوش وادي المغارة وسرابيط الخادم ، فقد كانت سيناء بالفعل " منجماً " للمواد الخام كالنحاس والفيروز الذي يستخرج المصريون القدماء منه ما يحتاجونه في الصناعة ، كما كان سكان شمال سيناء وهم " الهروشاتيو " أي أسياد الرمال وجنوبها وهم " المونيتور " الذين ينسبون إلي الجنس السامى ، كانوا يشتغلون بالزراعة حول الآبار والينابيع ، فيزرعون النخيل والتين والزيتون وحدائق الكروم ، كما يشتغلون بحرف الرعي علي العشب المتناثر في الصحراء ، ويرتادون أسواق وادي النيل فيبيعون فيه ما عندهم من أصواف وعسل وصمغ وفحم ويستبدلونه بالحبوب والملابس ، كما كانت الحملات الحربية تخرج من مصر في بعض الأحيان لتأديب بعض البدو في سيناء نتيجة الغارات التي كانوا يشنونها علي الدلتا ، وتدل آثار سيناء القديمة علي وجود طريق حربي قديم وهو طريق حورس الذي يقطع سيناء ، وكان هذا الطريق يبدأ من القنطرة الحالية ، ويتجه شمالاً فيمر علي تل الحي ثم بير رومانة بالقرب من المحمدية ، ومن قطية يتجه إلي العريش ، وتدل عليه بقايا القلاع القديمة كقلعة سيتي الأول ، الذي يقع الآن في منطقة قطية ، ولم تقتصر أهمية سيناء من الناحية التاريخية في تلك الفترة علي ما تسجله تلك النقوش ، ولكن ارتبط اسمها أيضاً بحادث مهم آخر ، وهو أنها كانت مسرحاً لحادث خروج بني إسرائيل من مصر وتجولهم في صحراء سيناء ، وبنو إسرائيل هم أبناء يعقوب ، ابن إبراهيم الخليل عليه السلام ، وهؤلاء لم يكونوا يهوداً كما يزعم " الإسرائليون " لأنهم ظهروا كمجموعة بشرية قبل ظهور النبي موسى بأكثر من 600 سنة ، وخلال العصرين اليوناني والرومماني استمرت سيناء تلعب دورها التاريخي ، فنشأت فيها العديد من المدن التي سارت علي نمط المدن اليونانية ، والتي كان أشهرها هي مدينة البتراء ، وهي مدينة حجرية حصينة في وادي موسى ، كانت مركزاً للحضارة النبطية التي نسبت إلي سكانها من الأنباط ، وهناك خلاف كبير حول أصل الأنباط ، والمرجح أنهم من أصول عربية نزحت من الحجاز ، لأن أسماء ملوكهم كانوا ذوى أسماء عربية كالحارث وعبادة ومالك ، وقد استخدم النبطيون طرق التجارة ، وعدنوا الفيروز في وادي المغارة والنحاس في وادي النصب ، وكانوا يزورون الأماكن المقدسة في جبلي موسى وسربال ، كما سكن رهبان من البتراء دير سانت كاترين في صدر العصر المسيحي ، وكانت أبرشية فيران قبل بناء الدير تابعة لأبرشية البتراء ، كما كانت هناك حضارات مزدهرة في سيناء خلال فترات التاريخ القديم ، فكانت سيناء بمثابة منجم المعادن الذي مد حضارة مصر القديمة بما تحتاجه ، ولم تكن تلك صحراء خالية من العمران ، كما اتضح وجود صلات وثيقة بين سيناء ووادي النيل طوال تلك الفترة ، ولم يكن هناك انفصال تاريخي بينهما ، ويدل على ذلك تلك الآثار المصرية الموجودة علي أرض سيناء ، وإذا ما انتقلنا إلي العصر الإسلامي نجد أن عمرو بن العاص حينما قدم إلي مصر لفتحها قد سلك طريق حورس في شمال سيناء فاستولى على العريش ، وتقدمت قواته ففتحت بيلوزيوم أو الفرما ، وبعدها تقدم إلي بلبيس التي كانت نقطة مهمة علي الطريق الذي يقطع سيناء إلي الشام ، وخلال فترة الحروب الصليبية تعرضت سيناء لمحاولة الغزو من قبل الصليبيين ، حيث قام بلدوين الأول حاكم بيت المقدس الصليبي بالتوغل في وادي عربة للسيطرة على المنطقة الواقعة جنوبي البحر الميت ، ثم شيد سنة 1115 م حصن الشوبك ليكون مركزاً يمكن للصليبيين من السيطرة علي وادي عربة بأكمله ، وفي العام التالي سنة 1116 م خرج بلدوين في حملة أخرى ، وسار حتى آيلة علي ساحل خليج العقبة ، وشيد في آيلة قلعة حصينة ليستطيع التحكم في الطريق البري للقوافل بين مصر والشام ، وتمكن بلدوين من تشييد قلعة في جزيرة فرعون الواقعة في مواجهة آيلة في خليج العقبة .
وبذلك تمكن الصليبيون من الإشراف على شبه جزيرة سيناء التي أخذت تحرك في قلوبهم ذكريات ومشاعر دينية عزيزة عليهم ، لكن علي الرغم من ذلك فإن رهبان دير سانت كاترين رفضوا استضافة بلدوين خشية انتقام الفاطميين في القاهرة ، مما جعل بلدوين ينصرف عائداً إلي بيت المقدس ، واستمر بلدوين في استراتيجيته الرامية إلى السيطرة على شبه جزيرة سيناء والطرق المؤدية إليها ، فبنى قلعة وادي موسى في عام 1117 م ، وفي العام التالي خرج بلدوين بحملة عبر الطريق الشمالي الذي يمر بشمال سيناء ، ووصل إلي الفرما حيث أحرقها ، وفي أثناء عودته أصيب بمرض نتيجة تناوله لوجبة من السمك أدت إلي وفاته ، وحُمل جثمانه إلي القدس ليدفن بها ، وقد تعرضت العريش لهجوم الصليبيين في عام 577 هـ / 1181 م وقطعت أشجار نخيل سيناء وحمل الصليبيون جذوعها إلي بلادهم لاستخدامها في صناعة السفن المعروفة بـ " الجلاب " التي تصنع من جذوع النخيل ، وذلك ضمن خطة رينالد من شاتيون حاكم حصن الكرك الصليبي للسيطرة علي البحر الأحمر ، إلا أن خطة رينالد في السيطرة علي سيناء والبحر الأحمر فشلت نتيجة الجهود التي قام بها الأيوبيون ، وخاصة صلاح الدين الأيوبي في وقت حملات رينالد في البحر الأحمر والتي وصلت حتى عدن ، وأسطول حسام الدين لؤلؤ ، الذي دمر الأسطول الصليبي ، وتغير مركز سيناء إبتداء من القرن الرابع عشر الميلادي ، فقد رأيناها منذ الفتح الإسلامي مجرد قنطرة تعبرها القبائل المختلفة من بلاد الحجاز والشام في طريقها إلي وادي النيل ، لكنها منذ ذلك التاريخ صارت منطقة تلجأ إليها القابئل ، بعد أن توقف تقريباً سيل الهجرات العربية إلي مصر في عصر المماليك ، حيث تم عزل العناصر العربية سياسياً ، ولم يعد هناك ما يدعو الحكام الجدد أن يستعينوا بالقبائل العربية في الحكم حتي يشجعوا هجرتها إلي مصر ، ويعد العصر المملوكي بداية لمرحلة من الإستقرار في شبه جزيرة سيناء نتيجة لتوقف موجات الهجرة العربية ، والاهتمام الملحوظ بطريق الحج إلي مكة والمدينة ، فقام بيبرس البندقداري " 658 – 676 هـ / 1260 – 1277 م " بتمهيد طريق العقبة بعد فتح آيلة ، فصار طريق السويس العقبة هو طريق الحج المصري ، كما أمنوا الطريق إلي الشام من غارات العربان لتأمين طريق البريد بين مصر والشام ، ونمت العريش في العصر المملوكي ، فقال عنها القلقشندي : إنها " مدينة ذات جامعين مفترق " أي أنهما بعيدين عن بعضهما البعض " ثمار وفواكه " ، لكن أصابها التدهور في نهاية العصر المملوكي ، حيث يذكر النابلسي خلال رحلته إلي مصر في تلك الفترة بأن العريش فيها " قلعة وزاوية " وبعض دور فناها خاوية " إلا أن السلطان المملوكي قنصوة الغوري " 906 – 922 هـ / 1501 – 1516 م اهتم بإنشاء القلاع في سيناء ، نظراً للأخطار التي كانت تحدق بدولته من ناحية الشرق وخاصة الخطر العثماني ، ومن ثم أنشأ قلعة نخل علي طريق الحج المصري وقلعة البغلة ، ونقب العقبة ، وكان اهتمام الدولة المملوكية بسيناء يهدف إلي تأمين حدود مصر الشرقية من الأخطار المحدقة بها ناحية الشرق ، وكانت تتمثل حينذاك في بقايا الوجود الصليبي ، بالإضافة إلي الخطر المغولي ، كما حاولت من وراء إنشاء القلاع وترميمها على طريق الحج أن تظهر بمظهر الدولة التي تؤمن لرعاياها المسلمين أداء فريضتهم الدينية .